أحمد نورالدين يكتب : فى حضرة العلّامة عبدالحكيم عبداللطيف .. ووصاياه للأمة
من سنن الله الجارية الماضية في عباده، الموت الذى لا محيد ولا مفر عنه , وموت العلماء فاجعة ثقيلة وخطب جلل ومصيبة ورزية عظيمة وبلاء كبير, ولما لا ؟ و دورهم عظيم وأثرهم كبير , وصدق الداعية مراد باخريصة فى قوله : ” العلماء هم ورثة الأنبياء وقرة عيون الأولياء وأمناء الله في خلقه فهم أنوار العباد ومنارات البلاد وقوام الأمة بهم يحفظ الله الملة وينصر الشريعة ويقيم الحكمة وهم منبع السلامة ومعدن الكرامة وغيظ الشيطان” , و بهم تحيا القلوب الحية وتموت القلوب الزائغة المضلة, فهم في الأرض كالنجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر لأنهم ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين, وبهم يعرف الحلال من الحرام ويتميز الحق من الباطل لأنهم يذكّرون الغافل ويعلمون الجاهل ويقومون بالرد على أعداء الإسلام وخصومه فلهذا رفع الله ذكرهم وأعلى منزلتهم وبيّن فضلهم وأخبر أن منزلتهم غالية ودرجتهم عند الله عالية, فالمصيبة بفقدهم أشد.
يقول سبحانه: ” كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ ” (الرحمن:26-27), ويقول عز وجل: ” وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ” (الأنبياء:34)، ويقول: ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” (العنكبوت:57) , ويقول جلَّ وعلا ” إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ” (الزمر:30-31).
يقول نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ” إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛ اتخذ الناس رؤوسا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا ” , ويوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” تظهر الفتن، ويكثر الهرج، ويقبض العلم ” فسمعه عمر فأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ” إن قبض العلم ليس شيئاً يُنتزع من صدور الرجال، ولكنه فناء العلماء “, وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ” عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضه ذهاب أهله ” .
واليوم بموت العلّامة الشيخ عبدالحكيم عبداللطيف شيخ عموم المقارئ المصرية – رحمه الله واعلى درجاته فى عليين – كان أعظم أنواع الفقد على نفوسنا وقعاً، وأشده على الأمة لوعة وأثراً، بفقدنا عالما ربانيا، وإماما مصلحا, لما له من مكانة عظمى، ومنزلة كبرى فى الامة , ” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ” (المجادلة:11) , ويقول سبحانه : ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ﴿الزمر: 9﴾ .
وبموت عالمنا الجليل الشيخ عبدالحكيم عبداللطيف خسرنا عدلا من الذين ينفون عن دين الله التحريف والتأويل، يقول رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :” يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ ” رواه البيهقي .
ومن عظيم وجزيل نعم الله علىّ ككاتب صحفى وإعلامى أن منّ الله علىّ بلقاء العلّامة الشيخ عبدالحكيم عبداللطيف – رحمه الله تعالى – فى الازهر الشريف , فى مقرأته التى كان يعقدها يوم الجمعة والاحد من كل اسبوع فيه , فسلمت عليه مقبلا يده الشريفة , طالبا من مرافقه الشيخ سعد شرف اجراء حوار مع فضيلته , وكان – رحمه الله – مقلا فى احاديثه الاعلامية ولا يحب الظهور والشو الاعلامى فى اخلاص بيّن من عالم فريد فى زماننا , وبعد ترتيت من الشيخ سعد وجدته يتصل بى لإخبارى بالموعد والمكان الذى سأجرى معه فيه الحوار , وبالفعل ذهبت الى فضيلته بمنزل ابنه الاستاذ عمر – عظم الله أجره وأحسن عزاءه فى فقيده وفقيدنا العظيم- , وكان شيخنا العلامة الجليل الشيخ عبدالحكيم عبداللطيف فى انتظارى , وعندما اطرقت على الباب كان هو من فتح لى , مرحبا ببشاشة جمة وقلب عطوف , ورأيت وجهه منيرا وضاء يذكرك بالآخرة , وسمته تري فيه السلف الصالح الاول , عالما متواضعا يعلوه الوقار , وهيبة يعلوها نور مهدار , وفمه ينطق علما ، وفكره يصب قرآنا وحكمة .
فأجريت مع فضيلته حوارا شرفت به كصحفى يجلس بين يدى وحضرة هذا العلامة , وشرفت به جريدتى الاهرام التعاونى بعددها الصادر فى 17 مايو 2016 – 10شعبان 1437, وكان من وصاياه ومطالبته
للحكومة ومؤسسة الازهر الشريف , عند سؤالى لفضيلته –رحمه الله- كيف ترى حال محفظى القرآن الآن ؟ وما الواجب تجاههم ؟ قوله: “على الحكومة والازهر الشريف أن توفر وتهيأ لهم المادة التى تعينهم على العيش الكريم , حيث توجد كتّاتيب لتحفيظ القرآن لا توجد بها مساعدة , وعلى أهل الخير النفقة فى سبيل القرآن وتعليمه لما فيه الثواب العظيم , بتوفير سيارة مثلا تقل المحفظين والطلاب الى الكتاتبب , و ندائى ان يرجع الكتّاب كما كان قديما “.
ومن وصاياه لنا تجاه نشئنا عند سؤالى لفضيلته كيف نربى النشئ الجديد على حفظ وفهم القرآن الكريم فى ظل المغريات الموجودة الآن ؟ قوله –رحمه الله- لى ” لابد للمغريات ان تمحى عند تحفيظ الاولاد صغارا للقرآن , مع تشجيعهم بالمال والحلوى كلما حفظ سورة, وزيادته على قدر طول السورة, وغرس عشق وحب القرآن فى نفوسهم اولا وقبل كل شئ , وتعليمهم انه بركة , وتفهيمهم معانى الكلمات التى يحفظونها كلفظ المرسلات بأنها الملائكة أو المطر مثلا وهكذا , وغرس العمل للآخرة لأن الدنيا فانية ومنتهية ” .
كما كان من وصاياه لى التى اراد بى ايصالها لمؤسسات العالم الإسلامي المعنية بالقرآن الكريم في حواره معى قوله رحمه الله : ” أطالبها جميعا وخاصة فى المملكة العربية السعودية والامارات ان تشجع وتعنى بالنشئ ومن نبغ من الكبار فى القراءات واتقنها ايضا , وألا يبخلوا على أهل القرآن الحافظين والمحفظين بالمال فى العالم الاسلامى اجمع, والاعتناء بالمسابقات القرآنية كمسابقة مكة والمدينة والبحرين مع المسابقة العالمية التى تقيمها وزارة الاوقاف والازهر” .
و من وفائه – رحمه الله – تنازله عن منصب شيخ عموم المقارئ المصرية لفضيلة الشيخ رزق خليل حبة –رحمه الله- مبيّنا فضله , عندما سألته عن ذلك فقال لى : ” اما الشيخ رزق خليل حبة فتخرج مدرسا وانا طالب وحضرت عليه علم رسم القرآن بشرح العقيلة وهو أعلم منى , ولما عرض علىّ مشيخة المقارئ ما رضيت أتقدم على شيخى رزق خليل حبة الذى حضرت عليه بالمعهد فقدمته ” .
وفى كلمته ووصيته الأخيرة التى طلبت من فضيلته – رحمه الله – ان يوجهها الى حافظى ومحفظى القرآن الكريم.. ماذا تقول لهم فيها ؟ كان قوله : ” أقول لهم القرآن كلام الله , وانظروا الى غيرنا كيف يعتنون بكتبهم , فنحن أولى بكتابنا المهيمن على الكتب السابقة له , فاعتنوا به واحفظوه واثبتوا على حفظه وعلموه غيركم وألموا بعلوم العصر العلمية , واهتموا بالآخرة مع علوم الدنيا .
وفى ختام ونهاية حوارى مع فضيلته – رحمه الله وأعلى قدره في الأبرار – قبلت يده ورأسه وآثرت ألا اغادره إلا و أن يدعو لى , فدعا لى ولأبنائى ولمصرنا الحبيبة ولأهل الإعلام أن يتحروا الصدق والأمانة في عرضهم لقضايا المجتمع , ولولا أن جاءه من يقرأ عليه من طلبته لمكثت أكثر وأكثر ارتوى من فيض حنانه وتواضعه وعلمه وأدبه الجم , سعيدا بالمكوث والجلوس بين يديه وتحت قدمه , ثم كنت بعد ذلك اطمئن على فضيلته حينما كنت أراه يوم الجمعة بالأزهر الشريف, عند اعطائى لدورة فن التحرير الصحفى , جالسا على الكرسى يسمع خطبة الجمعة .
وفى الختام .. إن العين لتدمع ،والقلب ليحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وأسألك ربنا باسمك الأعظم يا من لا إله إلا هو أن تبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنّة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النّار, اللهمّ عامله بما أنت أهله، ولا تعامله بما هو أهله, اللهمّ اجزه عن الإحسان إحساناً وعن الإساءة عفواً وغفراناً, اللهمّ إن كان محسناً فزد من حسناته، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيّئاته, اللهمّ أدخله الجنّة من غير مناقشة حساب ولا سابقة عذاب, اللهمّ اّنسه في وحدته وفي وحشته وفي غربته, اللهمّ أنزله منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين, اللهمّ أنزله منازل الصدّيقين والشّهداء والصّالحين، وحسن أولئك رفيقاً, اللهمّ اجعل قبره روضةً من رياض الجنّة، ولا تجعله حفرةً من حفر النّار, اللهمّ افسح له في قبره مدّ بصره، وافرش قبره من فراش الجنّة, اللهمّ أعذه من عذاب القبر، وجفاف الأرض عن جنبيها, اللهمّ املأ قبره بالرّضا والنّور والفسحة والسّرور, اللهمّ إنّه في ذمّتك وحبل جوارك، فقِهِ فتنة القبر، وعذاب النّار، وأنت أهل الوفاء والحقّ، فاغفر له وارحمه إنّك أنت الغفور الرّحيم, اللهمّ إنّه عبدك وابن عبدك خرج من الدّنيا وسعتها ومحبوبها وأحبّائه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه, اللهمّ إنّه كان يشهد أنّك لا إله إلّا أنت وأنّ محمّداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به .
اللهمّ إنّا نتوسّل بك إليك، ونقسم بك عليك أن ترحمه ولا تعذّبه، وأن تثبّته عند السؤال, اللهمّ إنّه نَزَل بك وأنت خير منزولٍ به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غنيٌّ عن عذابه, اللهمّ آته برحمتك ورضاك، وقهِ فتنة القبر وعذابه، وآته برحمتك الأمن من عذابك حتّى تبعثه إلى جنّتك يا أرحم الرّاحمين, اللهمّ انقله من مواطن الدّود وضيق اللحود إلى جنّات الخلود, اللهمّ احمه تحت الأرض، واستره يوم العرض، ولا تخزه يوم يبعثون “يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم”, اللهمّ يمّن كتابه، ويسّر حسابه، وثقّل بالحسنات ميزانه، وثبّت على الصّراط أقدامه، وأسكنه في أعلى الجنّات بجوار حبيبك ومصطفاك (صلّى الله عليه وسلّم), اللهمّ أمّنه من فزع يوم القيامة، ومن هول يوم القيامة، واجعل نفسه آمنة مطمئنّة، ولقّنه حجّته, اللهمّ اجعله في بطن القبر مطمئنّاً وعند قيام الإشهاد آمن، وبجود رضوانك واثق، وإلى أعلى درجاتك سابق, اللهم اجعل عن يمينه نوراً حتّى تبعثه آمناً مطمئنّاً في نورٍ من نورك, اللهمّ انظر إليه نظرة رضا، فإنّ من تنظر إليه نظرة رضا لا تعذّبه أبداً, اللهمّ أسكنه فسيح الجنان، واغفر له يا رحمن، وارحمه يا رحيم، وتجاوز عمّا تعلم يا عليم،, اللهمّ اعف عنه فإنّك القائل “ويعفو عن كثير”, اللهمّ إنّه جاء ببابك، وأناخ بجنابك، فَجد عليه بعفوك وإكرامك وجود إحسانك .
اللهمّ إنّ رحمتك وسعت كلّ شيء فارحمه رحمةً تطمئنّ بها نفسه، وتقرّ بها عينه, اللهمّ احشره مع المتّقين إلى الرّحمن وفداً, اللهمّ احشره مع أصحاب اليمين، واجعل تحيّته سلامٌ لك من أصحاب اليمين, اللهمّ بشّره بقولك “كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيّام الخالية”, اللهمّ اجعله من الّذين سعدوا في الجنّة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض, اللهمّ لا نزكّيه عليك، ولكنّا نحسبه أنّه أمن وعمل صالحاً، فاجعل له جنّتين ذواتي أفنان بحقّ قولك: “ولمن خاف مقام ربّه جنّتان”, اللهمّ شفع فيه نبيّنا ومصطفاك، واحشره تحت لوائه، واسقه من يده الشّريفة شربةً هنيئةً لا يظمأ بعدها أبداً, اللهمّ اجعله في جنّة الخلد (الّتي وُعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراُ لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربّك وعداُ مسؤولاً) .
اللهمّ إنّه صبر على البلاء فلم يجزع، فامنحه درجة الصّابرين الّذين يوفون أجورهم بغير حساب فإنّك القائل ” إنّما يوفي الصّابرون أجرهم بغير حساب “, اللهمّ إنّه كان مصلّ لك، فثبّته على الصّراط يوم تزل الأقدام, اللهمّ إنّه كان صائماً لك، فأدخله الجنّة من باب الريّان, اللهمّ إنّه كان لكتابك تالٍ وسامع، فشفّع فيه القرآن، وارحمه من النّيران، واجعله يا رحمن يرتقي في الجنّة إلى آخر آية قرأها أو سمعها، وآخر حرفٍ تلاه, اللهمّ ارزقه بكلّ حرفٍ في القرآن حلاوة، وبكلّ كلمة كرامة، وبكلّ اّية سعادة، وبكلّ سورة سلامة، وبكل جْزءٍ جزاء, اللهمّ ارحمه فإنّه كان مسلماً، واغفر له فإنّه كان مؤمناً، وأدخله الجنّة فإنّه كان بنبيّك مصدّقاً، وسامحه فإنّه كان لكتابك مرتّلاً , اللهمّ لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله.. وخالص عزائى لمصرنا وامتنا الاسلامية كلها فى مصابها الجلل .